دائماً ما يستهويني النظر والتمعن في الأمور الشرعية التي ترتبط ارتباطا لصيقاً بالمجتمع المسلم والتي يؤثر وجودها أو غيابها في سلوك هذا المجتمع المسلم إيجاباً أو سلباً ، وكثيرة هي تلك الأمور في كتاب الله وفي سنة نبيه . فلقد حرص الإسلام علي إقامة كيان مسلم متميز ومؤثر في غيره من الكيانات الأخرى بوسائل شتي من التأثير . ولهذا حرص علي ترسيخ القيم الأخلاقية بشكل خاص ورتب عليها الجزاء الدنيوي والأخروي الذي قد يقارب أو يفوق أعمال شرعية وتعبديه أخري
وقد اهتم الإسلام منذ البداية علي تعميق معاني الدعوة إلي الله وبذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاً بحسب ضوابطه وجعلها هي الأدوات الأساسية والمعول الرئيسي لتمهيد الطريق الوحيد الذي يصل بهذه الأمة لسبيل الخير والفوز والنجاة في الدنيا والآخرة
ومن الطبيعي أن يختل هذا التوازن المنشود باختلال تعاطي هذه القيم في المجتمع بحيث يظهر التأثير واضحاً في حالة غياب احد هذه العناصر الثلاثة غياباً مؤثراً وليس كاملاً ، فهي قيم قام عليها الإسلام ولا يمكن أن تغيب غياباً كاملاً في الأمة ولكن يحدث (التغييب ) المتعمد أو المكتسب لتلك القيم بشكل مباشر أو غير مباشر
ولقد أوضح الحبيب بقاء تلك القيم مطلقاً إلي يوم الدين بقوله
لا تزال طائفة من أمتي قائمة بامر الله لا يضرهم من خذلهم او خالفهم حتي ياتي امر الله وهم ظاهرون علي الناس
فالامر بالمعروف والنهي عن المنكر يضم كل من الدعوة إلي الله وبذل النصيحة بجانب كونه اداة مستقلة عن تلك الأدوات
ولا شك أن العاملين في مجال الدعوة أو من لديهم قدرة ولو محدودة علي هذا الأمر الجليل مشتركون بشكل أو آخر في هذا التأثير عند الناس ، فهناك من يعتقد أنه لا بد وأن يأمر بالمعروف وأن ينهي عن المنكر بأي صورة كانت دون النظر في مألآت فعله ودون مراعاة للترتيب الرئيسي لدرجات العمل بهذه الشعيرة الطيبة ، ففي قول الحبيب الشهير والذي يصف فيه مراتب الإنكار
من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان
فإن كل مؤمن مطالب بإنكار المنكر في نفسه ابتدائاً وفي حق غيره إن كان يملك الأدوات المعينة علي ذلك ، ولكن في تعيين صور الإنكار نفسها تفصيل ، فالإنكار باليد لا يستقيم إلا لكل من يملك حق ذلك كولاة الأمور ومن يقوم في مقامهم
فكل راع مسئول عن رعيته ومن يغير باليد لا بد وأن يمتلك الشرعية المؤهلة لذلك وإلا لتحولت الأمة لغابة يغير أي شخص فيها كل منكراً يراه بيده فيقتل هذا ويضرب هذا ، ويروع هذه ويؤذي الاخري كما كنا نسمع جميعاً عما كان يجري في السنين الماضية من بعض الفرق التي اعتقدت بشرعية استخدامها لهذا الحق وتلك المرتبة فسببت بجهل أو بفهم مغلوط في عشرات المنكرات الأخرى والأذى الذي مازال يعاني ونعاني منه جميعاً من تشويه صورة التدين في الداخل والخارج
أما عن المرتبة الأكثر تأثيراً – والأكثر صعوبة في الوقت ذاته وهي الإنكار باللسان والتي أراها منزلة وسط بين الأولي والثالثة وهي أمانة الكلمة والنصيحة والدعوة ، والتي هي مهمة كل مسلم عملاً بوصية الحبيب : بلغوا عني ولو آية ، والوصية الاخري : نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها
وتقع أهميه تلك المرتبة في مدي تأثيرها ونفاذها لدي العقول . فإنك ما تقول كلمة إلا و وقعت في أذن كل من يسمعك أو يقرأ ما تكتبه وقعاً خاصاً وتأثيراً قد يكون متوافق أو مختلف عن ما ترمي إليه ولهذا لفت الله الأنظار لذلك بقوله تعالي
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
لذا فإن من يفتقر إلي قدر مناسب من الحكمة ولا يستطيع أن يسوق الدلائل الحسنة والقادرة علي معالجة الأمور بشكلها الصحيح ولا يعرف سبيل النقاش الصحي والشرعي فليعلم أنه قد يساهم في زيادة أمر هذا المنكر في قلوب من يحاورهم دون أن يدري ذلك أو يقصد وليتمثل قول رب العزة
وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ
وهي في حق المسلم وغير المسلم، وفي حق العاصي والفاجر والمؤمن والتقي
وهناك أمر هام وهو أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد وأن يتحلي بالصبر واحتمال الأذى كما بين ذلك الحكيم لقمان وهو يعظ ابنه
َيا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
وأن يحتسب كل ما يلقاه من أذي أو ضرر أو تجريح عند الله ، وأن الله يعلم ما يصيبه وما يلقاه في سبيل تعبيد الناس وحثهم للسير إليه فلا ييأس
ولا شك أن معظمنا قد يقع في شراك التجاوز في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد يقع في بعض التجاوزات التي من الممكن أن تجعل الطرف الأخر يحجم أحياناً ويستعمل العناد والرفض المطلق دون مبرر أحياناً أخري فلا بد أن يقف وقفة مراجعة يراجع فيه أسلوبه وطريقته وقدرته علي هذا الإنكار وحساب حسبة المصالح والمفاسد التي قد تترتب علي ما يقوم به
وعليه ألا يعتقد أن هذه هي نهاية المطاف وألا يغلق الباب في وجه من ينصحه . بل يتركه موارباً لعل أحداً يأتي بعده فيكمل ما بدأه هو أو ما لم يحسن الوصول إليه . وهذه نقطة هامة
وقد يحتاج الحديث مقالات ومقالات . ولعل الله يمن علينا بفتح هذه الملف في تدوينات أخري إن شاء الله