تحدثت في مقالي السابق (الأدوات) عن الوسائل الخيرية الثلاثة المتعلقة ببعضها البعض وهي الدعوة إلي الله وبذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وخلصت إلي ان الأداة الجامعة لكل هذه الوسائل هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فتلك الشعيرة العظيمة جعلها الله الفيصل ما بين المؤمنين و غيرهم وعلامة فارقة لهم وقرنها بهم في أكثر من موضع في كتابه العزيز
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
وزكي الله أتباع رسوله محمداً المستنون بسنته بقوله
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ
وكانت هي من أحب الأعمال التي يمكن التقرب بها إليها الله كما في حديث الرجل الذي أتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فقال أنت الذي تزعم أنك رسول الله قال نعم ، قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله قال الإيمان بالله ، قال قلت يا رسول الله ثم مه قال ثم صلة الرحم ، قال قلت يا رسول الله ثم مه قال ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أبغض إلى الله قال الإشراك بالله ، قال قلت يا رسول الله ثم مه قال ثم قطيعة الرحم ، قال قلت يا رسول الله ثم مه قال ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف
والحقيقة أن في مجال بحثي لكتابة هذا المقال وجدت أن خطر ترك تلك الشعيرة العظيمة فادح جداً وأن ثمن البعد عنها مدمر ليس علي المستوي الفردي فقط ولكن علي مستوي الأمة جميعاً كما تراه في قول الله تعالي
وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
ففي تلك الآية الكريمة رسالة من الله تعالي لعباده الصالحين بصفه خاصة يقول فيها أن احذروا أيها المؤمنون اختبارًا ومحنة يُعَمُّ بها المسيء وغيره لا يُخَص بها أهل المعاصي ولا مَن باشر الذنب, بل تصيب الصالحين معهم إذا قدروا على إنكار الظلم ولم ينكروه
وتكمن الخطورة في أن ترك المنكر ينمو بمرأى وأعين من يعرفون أنه منكر ولا ينكرونه يخلق مزيد من الجرأة عليه والجهر به من قبل العاصي ، ويربي ما يسمي بـ( إلف العادة) لدي غيرهم لكثرة ما يرونه من منكرات لا تجد من ينكرها علي أصحابهم - بالمراتب والضوابط التي ذكرناها في المقال السابق ، ولهذا تري الوعيد الشديد للمجاهرين في قول الحبيب
كل أمتي معافي إلا المجاهرون
ولقد كان ترك تلك الشعيرة سبب لعنة بني إسرائيل كما قال رب العزة
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
فقد كان الرجل منهم يقابل الرجل وهو مقيم علي المعاصي فيقول له يا فلان اتق الله ودع هذا المنكر ثم لا يمنعه ذلك ان يكون جليسه وشريبه
كانوا لا يتناصحون ولا يتناهون عن المنكرات حتى ألفوها وصارت أمراً طبيعياً فلعنهم الله لما كان فيهم
وهذا الامر تجده ينمو بشكل مخيف ومفزع في مجتمعاتنا و بحيث ينبغي علينا جميعاً دق ناقوس الخطر والاستعداد بمواجهته بحسب قدره كل فرد منا علي ذلك
وينبغي أن يعلم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه متلبساً بعبادة طيبة وعظيمة فهي مهمة الأنبياء ودأب الأتقياء والصالحين من بعدهم ، ينبغي عليه مراعاة بعض الأمور حتي يخرج عمله مواقفاً لمراد الله ورسوله
الأمر الأول: أن يكون الإنسان عالماً بالمعروف والمنكر، فإن لم يكن عالماً بالمعروف فإنه لا يجوز أن يأمر به ، لأنه يأمر بماذا ؟ قد يأمر بأمر يظنه معروفاً وهو منكر ولا يدري، فلابد أن يكون عالماً أن هذا من المعروف الذي شرعه الله ورسوله، ولابد أن يكون عالماً بالمنكر، أي عالماً بأن هذا منكر، فإن لم يكن عالماً بذلك ؛ فلا ينه عنه؛ لأنه قد ينهى عن شيء هو معروف فيترك المعروف بسببه، أو ينهى عن شيء وهو مباح فيضيق على عباد الله، بمنعهم مما أباح الله لهم، فلابد أن يكون عالماً بأن هذا منكر، وقد يتسرع كثير من إخواننا الغيورين، فينهون عن أمور مباحة بظنونها منكراً فيضيقون على عباد الله.
فالواجب أن لا تأمر بشيء إلا وأنت تدري أنه معروف، وأن لا تنه عن شيء إلا وأنت تدري أنه منكر
الأمر الثاني: أن تعلم بأن هذا الرجل تارك للمعروف أو فاعل للمنكر، و لا تأخذ الناس بالتهمة أو بالظن، فإن الله تعالى يقول
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا
فإذا رأيت شخصاً لا يصلي معك في المسجد، فلا يلزم من ذلك أنه لا يصلي في مسجد آخر؛ بل قد يصلي في مسجد آخر، وقد يكون معذوراً ، فلا تذهب من أجل أن تنكر عليه حتى تعلم أنه يتخلف بلا عذر.
ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يستفهم أولاً قبل أن يأمر ، فإنه ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس ولم يصل تحية المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أصليت؟ قال: لا ، قال: قم فصل ركعتين ، ولم يأمره أن يصلي ركعتين حتى سأله : هل صلى أم لا؟ مع أن ظاهر الحال أنه دخل وجلس ولم يصل، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام خاف أن يكون قد صلى وهو لم يشعر به، فقال : أصليت؟ فقال: لا ، قال قم فصل ركعتين
الأمر الثالث: أن لا يزول المنكر إلى ما هو أعظم منه، فإن كان هذا المنكر لو نهينا عنه ، زال إلى ما هو أعظم منه، فإنه لا يجوز أن ننهى عنه، درءاً لكبرى المفسدتين بصغريهما؛ لأنه إذا تعارض عندنا مفسدتان وكان إحداهما أكبر من الأخرى ؛ فإننا نتقي الكبرى بالصغرى
ويُذكر أن شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله عليه- مرّ بقوم في الشام من التتار ووجدهم يشربون الخمر، وكان معه صاحب له، فمرّ بهم شيخ الإسلام ولم ينههم، فقال له صاحبه: لماذا لم تنههم؟ قال : لو نهيناهم لذهبوا يهتكون أعراض المسلمين وينهبون أموالهم، وهذا أعظم من شربهم الخمر، فتركهم مخافة أن يفعلوا ما هو أنكر وأعظم ، وهذا لا شك أنه من فقهه رحمه الله .
الأمر الرابع: اختلف العلماء- رحمهم الله- هل يشترط أن يكون الآمر والناهي فاعلاً لما أمر به، تاركاً لما نهى عنه أو لا؟ والصحيح أنه لا يشترط، وأنه إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ولم كان لا يفعل المعروف ولا يتجنب المنكر، فإن ذنبه عليه، لكن يجب أن يأمر وينهى، لأنه إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفعل المأمور ولا يترك المحظور، لأضاف ذنباً إلى ذنبه، لذا فإنه يجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان يفعل المنكر ويترك المعروف.
ولكن في الغالب بمقتضى الطبيعة الفطرية أن الإنسان لا يأمر الناس بشيء لا يفعله ، بل يستحي، ويخجل، ولا ينهى الناس عن شيء يفعله. لكن الواجب أن يأمر بما أمر به الشرع وإن كان لا يفعله وأن ينهي عما نهي عنه الشرع ، وأن كان لا يتجنبه؛ لأن كل واحد منهم واجب منفصل عن الآخر، وهما متلازمين.
ثم إنه ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقصد بذلك إصلاح الخلق وإقامة شرع الله، لا أن يقصد الانتقام من العاصي ، أو الانتصار لنفسه ، فإنه إذا نوى هذه النية لم ينزل الله البركة في أمره ولا نهيه؛ بل يكون كالطبيب يريد معالجة الناس ودفع البلاء عنهم ، فينوى بأمره ونهيه أولاً : إقامة شرع الله ، وثانياً : إصلاح عباد الله ، حتى يكون مصلحاً وصالحاً
لذا فالواجب علي كل واحد منا أن يعلم تمام العلم بأهمية هذه الشعيرة العظيمة الخطيرة واثرها الطيب الإيجابي في المجتمع ومعرفة أثرها السلبي المدمر فيه محاولة منا للتلبس بها والتدريب عليها ما استطعنا إلي ذلك سبيلاً
وإن شاء الله لعلنا نتطرق لبعض طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبكافة صوره من مواقف رسولنا الكريم ومن بعض النماذج العصرية من واقعنا الحالي في مقالات أخري أن شاء الله